Friday, February 12, 2010

في الظهيرة



فتح محفظته ببطء ونبش فيها بأصابعه لعلة يجدها مدسوسة هنا أو هناك .. العرق يتصبب من جبينه بغزارة ورائحة "الديزل" المنبعثة من محركات الباصات بجانبه تزكم أنفة .. بحث عن بقعة ظل يهرب إليها من لهيب الشمس الحارقة ..

وقف في ظل مقهى بجانب المحطة .. فتح المحفظة للمرة الرابعة أو الخامسة .. نبش هنا وهناك باحثا في جيوب المحفظة القليلة .. ولم يجدها .. ورقة بمائه ريال وضعها هنا البارحة .. كانت ستكفيه ليذهب لمشواره الهام إلى الكلية (ليرى درجاته) .. ولكن يبدو أن الورقة النقدية ضاعت أو سرقت منه ..شعر بالغيض .. بحث في جيوب بنطلونه وقميصه بدون حماس.."إنها بالتأكيد ليست هنا!" .. فتح محفظته مرة أخيرة ليتأكد كم بقي معه من "أفلاس"- كما يسمون النقود المعدنية الصغيرة- فوجد أن ما معه يكفي لأن يعيده إلى البيت مباشرة بالباص ..أو يأخذه إلى الكلية..ولكن العودة ستكون مشيا على الأقدام ..

ابتلع ريقه عندما حسب المسافة التي سيمشيها على الأقدام... تردد لحظة في الرجوع للبيت ..ولكن تذكر والدته وهي تعطيه المائة ريال البارحة ..كان يعرف قيمة المائة ريال بالنسبة لعائلته...وحاجتهم الشديدة لكل ريال يأخذه.


تذكر وجهها صباح اليوم وهي تنفض بيديها أكتاف قميصه قائلة "ناجح إنشاء الله .." .."الله ينصرك..!"..
نجاحه كان بالنسبة لها تعويض عن أيام مريرة قاستها في تربيته..

وعى إلى الدنيا لا يعرف أباه ..توفي قبل ولادته بشهر بداء الكبد..ترك خلفه امرأة حامل وبنتان لا يجدون من يعيلهم..لم يترك لهم شيئا سوى بيت متواضع في حارة فقيرة سكانها أفقر..


كان سكان حارتهم الضيقة ينادونه يا "ابن فلانة" ..منذ نعومة أضافره لم يجد حرجا كونه "ابن فلانة"..ولم يفهم ضحك الأطفال وهم ينادونه بذلك الاسم بطريقة هزلية.
أمة امتهنت الخياطة...كانت تحيك لنساء الحارة الملابس البسيطة ..وفساتين المدرسة البيضاء للبنات الصغيرات.

رغم النقود القليلة التي كانت تحصل عليها ..لم تمد يدها لأحد يوما..رفضت جميع من تقدموا لخطبتها رغم المحاولات المتكررة لإقناعها من بعض نسوة الحارة.
سمع ذات يوم ..الحجة "مريم" –جارتهم العجوز – وهي تجلس بجانب أمة في ساحة البيت واضعة يدها على ركبة أمة تهمس "يا بنتي عادك صغيرة..!" .. يومها سمع أمة تقول "أجيب لعيالي زوج أم يعذبهم!.."
عرف لاحقا أن المرآة العجوز جاءت بإبن أخيها "المُطلّق" خاطبا . وأمه رفضت.

عندما بلغ السادسة عشرة كثيرا ما حاول إقناعها بأن يتوقف عن الدراسة ويبحث عن عمل ليساعدها..كانت
ترفض...بصوت المراهق الأجش يقول "أنا رجال البيت..!" ..عندها كانت تبتسم وتمسح بيدها الحانية على رأسه وتقول "أنت سيد الرجال... إذا تحبني كمَل دراستك..!" ..
رغم تعليمها المتوسط ..كانت تقدس العلم..
عبارة "نفسي أشوفك مهندس قد الدنيا..!"كثيرا ما رددتها على مسامعه..
........
أفاق من شروده على صوت "المُباشِر" يسأله ماذا يطلب..لم يجيبه..

توجه إلى "دبة" الماء البارد داخل المقهى ..صب كوبا تناوله دفعة واحدة..
ثم مسح عرقه بطرف كُمه وقبض على ما تبقى معه من "أفلاس" بيده..
خرج من المقهى عاقدا العزم ..إلى الكلية..قائلا "الله يستر..!".
 

الاثنين..2007/1/22

1 comment: